فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو ذاك» وفي صحيح مسلم عن البَرَاء بن عازِب قال: مُرَّ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديّ مُحمَّمًا مجلودًا، فدعاهم فقال: «هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم» قالوا: نعم.
فدعا رجلًا من علمائهم فقال: «أنْشُدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم» قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أُخبرك نجده الرّجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدّ، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التَّحمِيم والجلد مكان الرجم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأَمَر به فرجم؛ فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} يقول: ائتوا محمدًا، فإن أمركم بالتحمِيم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله عز وجل: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون} في الكفار كلها.
هكذا في هذه الرواية «مُرَّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم» وفي حديث ابن عمر: أُتِي بيهوديّ ويهودية قد زنيا فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود، قال: «ما تجدون في التوراة على من زنى» الحديث.
وفي رواية؛ أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة قد زنيا.
وفي كتاب أبي داود من حديث ابن عمر قال: أَتَى نفرٌ من اليهود، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفِّ فأتاهم في بيت المِدراس فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلًا مِنا زنى بامرأة فاحكم بيننا.
ولا تَعارُض في شيء من هذا كله، وهي كلها قصة واحدة، وقد ساقها أبو داود من حديث أبي هريرة سياقة حسنة فقال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله، وقلنا فتيا نبي من أنبيائك؛ قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه؛ فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى بيت مِدْرَاسهم، فقام على الباب، فقال: «أَنْشُدْكُمْ بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن» فقالوا: يُحَمَّم وجهه ويُجبَّه ويُجْلد، والتَّجْبِية أن يُحمل الزانيان على حمار وتُقابَل أقفيتُهما ويطاف بهما؛ قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت أَلَظَّ به النَّشْدَة؛ فقال: اللهم إذ نَشَدْتنا فإنا نجد في التوراة الرّجم.
وساق الحديث إلى أن قال قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فإني أحكم بما في التوراة» فأَمَر بهما فرُجِما. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى خاطب محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: يا أيها النبي في مواضع كثيرة، وما خاطبه بقوله: يا أيها الرسول إلا في موضعين: أحدهما: ههنا، والثاني: قوله: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} [المائدة: 67] وهذا الخطاب لا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم. اهـ.
قال الفخر:
قرئ {لاَ يَحْزُنكَ} بضم الياء، ويسرعون، والمعنى لا تهتم ولا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه الكيد والمكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم.
يقال: أسرع فيه الشيب وأسرع فيه الفساد بمعنى وقع فيه سريعًا، فكذلك مسارعتهم في الكفر عبارة عن إلقائهم أنفسهم فيه على أسرع الوجوه متى وجدوا فيه فرصة، وقوله: {مِنَ الذين قَالُواْ ءامَنَّا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} فيه تقديم وتأخير، والتقدير: من الذين قالوا بأفواههم آمنا ولم تؤمن قلوبهم ولا شك أن هؤلاء هم المنافقون. اهـ.

.قال القرطبي:

المعنى في الآية تأنيسٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: أي لا يحزنك مسارعتهم إلى الكفر، فإن الله قد وعدك النصر عليهم. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {وَمِنَ الذين هِادُواْ سماعون لِلْكَذِبِ سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ}
ذكر الفرّاء والزجاج هاهنا وجهين: الأول: أن الكلام إنما يتم عند قوله: {وَمِنَ الذين هِادُواْ} ثم يبتدأ الكلام منقوله: {سماعون لِلْكَذِبِ سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ} وتقدير الكلام: لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود، ثم بعد ذلك وصف الكل بكونهم سماعين لقوم آخرين.
الوجه الثاني: أن الكلام تمّ عند قوله: {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} ثم ابتدأ من قوله: {وَمِنَ الذين هِادُواْ سماعون لِلْكَذِبِ} وعلى هذا التقدير فقوله: {سماعون} صفة محذوف، والتقدير: ومن الذين هادوا قوم سماعون.
وقيل: خبر مبتدأ محذوف، يعني هم سماعون. اهـ.
قال الفخر:
ذكر الزجاج في قوله: {سماعون لِلْكَذِبِ} وجهين: الأول: أن معناه قابلون للكذب، والسمع يستعمل ويراد منه القبول، كما يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل منه، ومنه «سمع الله لمن حمده»، وذلك الكذب الذي يقبلونه هو ما يقوله رؤساؤهم من الأكاذيب في دين الله تعالى في تحريف التوراة، وفي الطعن في محمد صلى الله عليه وسلم.
والوجه الثاني: أن المراد من قوله: {سماعون لِلْكَذِبِ} نفس السماع، واللام في قوله: {لِلْكَذِبِ} لام كي، أي يسمعون منك لكي يكذبوا عليك.
وأما قوله: {سماعون لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لم يأتوك} فالمعنى أنهم أعين وجواسيس لقوم آخرين لم يأتوك ولم يحضروا عندك لينقلوا إليهم أخبارك، فعلى هذا التقدير قوله: {سماعون لِلْكَذِبِ} أي سماعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يكذبوا عليه بأن يمزجوا ما سمعوا منه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، سماعون من رسول الله لأجل قوم آخرين من اليهود، وهم عيون ليبلغوهم ما سمعوا منه. اهـ.
وقال الفخر:
{يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه} أي من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرّم حرامه.
قال المفسرون: إن رجلًا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قومًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا، وقالوا: إن أمركم بالجلد فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا، فلما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم «ابن صوريا» فقال الرسول: هل تعرفون شابًا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا؟ قالوا نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض، فرضوا به حكمًا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من أحصن» قال ابن صوريا: نعم، فوثبت عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته، فقال ابن صوريا: أشهد أن إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده.
إذا عرفت القصة فنقول: قوله: {يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه} أي وضعوا الجلد مكان الرجم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي يتأوّلونه على غير تأويله بعد أن فهموه عنك وعرفوا مواضعه التي أرادها الله عز وجل؛ وبين أحكامه؛ فقالوا: شرعه ترك الرجم؛ وجعلهم بدل رجم المحصن جلد أربعين تغييرًا لحكم الله عز وجل.
و{يُحَرِّفُونَ} في موضع الصفة لقوله: {سَمَّاعُونَ} وليس بحال من الضمير الذي في {يَأَتُوكَ} لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا، والتحريف إنما هو ممن يشهد ويسمع فيحرِّف.
والمحرّفون من اليهود بعضهم لا كلّهم، ولذلك كان حمل المعنى على {وَمِنَ الذين هَادُواْ} فريق {سَمَّاعُونَ} أشبه. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} أي إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا.
واعلم أن مذهب الشافعي رحمه الله أن الثيب الذمي يرجم.
قال: لأنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر برجمه، فإن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول فقد ثبت المقصود، وإن كان إنما أمر بذلك بناء على ما ثبت في شريعة موسى عليه السلام وجب أن يكون ذلك مشروعًا في ديننا، ويدل عليه وجهان: الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفتى على وفق شريعة التوراة في هذه المسألة كان الإقتداء به في ذلك واجبًا، لقوله: {فاتبعوه} [الأعراف: 58] والثاني: أن ما كان ثابتًا في شرع موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخ هذا الحكم، فوجب أن يكون باقيًا، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] حكمه باق في شرعنا.
ولما شرح الله تعالى فضائح هؤلاء اليهود قال: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا}.
واعلم أن لفظ الفتنة محتمل لجميع أنواع المفاسد، إلا أنه لما كان هذا اللفظ مذكورًا عقيب أنواع كفرهم التي شرحها الله تعالى وجب أن يكون المراد من هذه الفتنة تلك الكفريات التي تقدم ذكرها، وعلى هذا التقدير فالمراد: ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا}.
في هذا الآية الكريمة إجمال، لأن المشار إليه بقوله: {هذا}، ومفسر الضمير في قوله: {فخذوه}، وقوله: {لم تؤتوه} لم يصرح به في الآية ولكن الله أشار له هنا، وذكره في موضع أخر.
اعلم أولًا أن هذه الآية نزلت في اليهودي واليهودية الذين زنيا بعد الإحصان، وكان اليهود قد بدلوا حكم الرجم في التوراة، فتعمدوا تحريف كتاب الله، واصطلحوا فيما بينهم على أن الزاني المحصَن الذي يعلمون أن حده في كتاب الله «التوراة» الرجم أنهم يجلدونه ويفضحونه بتسويد الوجه والإركاب على حمار، فلما زنى المذكوران قالوا فيما بينهم تعالوا نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم في شأن حدهما، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ذلك واجعلوه حجة بينكم وبين الله تعالى ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم فيهما بذلك، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن المراد بقوله: {هذا} وقوله: {فخذوه}، وقوله: {وإن لم تؤتوه} هوالحكم المحرف الذي هو الجلد والتحميم كما بينا، وأشار إلى ذلك هنا بقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا} يعني المحرف والمبدل الذي هو الجلد والتحميم {فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ} بأن حكم بالحق الذي هو الرجم {فاحذروا} أن تقبلوه.
وذكر تعالى هذا أيضًا في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كِتَابِ الله} [آل عمران: 23]، يعني التوراة ليحكم بينهم يعني في شأن الزانيين المذكورين {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُون} [آل عمران: 23] أي عما في التوراة من حكم رجم الزاني المحصن، وقوله هنا: {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُون} هو معنى قوله عنهم، {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} والعلم عند الله تعالى. اهـ.